August 2023 , 09
الوقاية من الأمراض الوراثية من خلال أطفال الأنابيب
د. أماني شلتوت

 

إن خلق الإنسان هو المعجزة الكبرى في هذا الكون و ظل لغزاً يستعصي عن الأفهام حتى أنعم الله علينا بالعلم ، وكشف لنا الكثير من هذه الأسرار ، والتي أفادت البشرية في إكتشاف الكثير من الأمراض الوراثية والتي تنتقل عبر الأجيال ، وتسبب مشكلات إجتماعية و إقتصادية كبيرة .. والحديث هنا عن بعض أمراض الدم مثل الثلاسيميا وأنيميا الخلايا المنجلية وعن بعض أنواع الخلل الجيني والوراثي في كثير من الأمراض التي قد تؤدي لحدوث تشوهات الأجنة ، والتي يعتقد البعض أنها تحدث فقط نتيجة لعوامل إما بيئية مثل نقص التغذية عند الأم أو إستعمال بعض العقاقير في المرحلة الأولى من الحمل أو تعرض الجنين في مراحل عمره الأولى لبعض السموم مثل بعض المواد الكيميائية و التدخين و التعرض للإشعاع .

 

وإن من أهم الأسباب التي تؤدي لحدوث إجهاض تلقائي متكرر و تشوهات بالأجنة هي الأمراض الوراثية أو وجود خلل جيني أو كروموسومي حيث يحمل كلا الزوجين أو إحداهما أحيانا كروموسوم موروث من أحد آبائه به تشوه أو قد يحدث إضطراب في عدد الكروموسومات عند إختلاط البويضة و الحيمن ، و يتكون كل كروموسوم من وحدات صغيرة يطلق عليها الجينات ، وهي التي تحمل الصفات الشكلية للكائن البشري ، و عدد هذه الكروموسومات هو 46 كروموسوم مصفوفة في 23 زوجا ، و يوجد ضمنها زوج واحد فقط مسئول عن تكون جنس الجنين . 

 

ويعتقد الأطباء أن أكثر من 70% من حالات الإجهاض المبكر سببها التشوة في الأجنة ، بل أن كثيرا من هذه الحالات تحدث مبكرا للغاية قبل أن تكتشف المريضة أنها حملت ، و بعض الحالات يستمر الجنين في النمو حتى يولد ، ومن أكثر هذه الحالات شيوعا هي وجود كروموسوم زائد في رقم 21 وهو ما يطلق عليه الطفل المنغولي ، وهناك حالات تشوه أخرى أقل حدوثا كما في متلازمة تيرنر و متلازمة كلاينفلتر ، وهناك مئات من الأمراض الوراثية أو المتلازمات التي تم إكتشافها و إن كان أغلبها نادر الحدوث .

 

ومن أهم الأسباب التي دفعت العلماء إلى تكثيف دراسة الجينات هي الأمراض الوراثية المعقدة ومن أهمها الثلاسيميا وأنيميا الخلايا المنجلية المنتشرين في منطقتنا بغرض التصدي لها من أجل الوقاية من الأمراض الوراثية والتشوهات الخلقية  للمواليد ، وكما تم استحداث التقنية التي تتيح للزوجين فحص الأجنة التي سوف تحمل بها الأم - إن شاء الله - لضمان خلوها من الأمراض الوراثية ، ولا تقتصر فائدة التقنية الجديدة على هذا الجانب - بل أضافت لدينا بعدا جديدا لعلاج هذه الحالات ، حيث أصبح بالإمكان إختيار أجنة سليمة متوافقة نسبياً مع أي من الأخوة المصابة بأمراض الدم الوراثية في الأسرة .

 

وهناك أمراض وراثية تحدث نتيجة خلل في أكثر من مورث واحد و ينتج عنها حالات عيوب القلب الخلقية وتشوهات المخ و الضمور الفقري و ضمور العضلات و التشوه في الجهاز العصبي والكلى و الجهاز الهضمي ، وقد تم حديثا تطوير تقنيات في الأعوام الماضية لفحص أي تشوهات بكروموسومات الأجنة قبل نقلها للرحم بغرض منع حدوث تشوهات مستقبلية بالجنين . 

 

كروموسومات طفل بمتلازمة داون

 

وقد يشيع الاعتقاد بأن الأمراض الوراثية غير شائعة بين الأطفال ، ولكن هناك 1-3% من الأطفال الذين يصابون بأمراض وراثية بعضها غير متوافق مع الحياة ، ويؤدي إلى وفاة الجنين ، وبعضها يؤدي إلى إحداث إعاقة للمولود أو تشوهات خلقية .

إن أسلوب الوقاية في كثير من الأمراض الوراثية أصبح حقيقة ممكنة بعدة وسائل أحدثها هو اختيار الأجنة وراثياً قبل مرحلة العلوق بالرحم ، وتتم من خلال برنامج طفل الأنابيب و التخصيب المجهري - حيث يقوم الطبيب بعد تخصيب البويضات بالحيامن ووصولها إلى مرحلة 8-10 خلايا متشابهة - بفحص خلية واحدة لتشخيص التركيبة الوراثية الكاملة للجنين ، ويتم هذا الاختبار بارتشاف خلية واحدة من البويضة المخصبة بواسطة أجهزة دقيقة مجهرية دون الإضرار بالبويضة ، ثم يتم البدء في تحليل مكونات نواة الخلية بطرق معملية مختلفة لإكتشاف الكروموسومات المعيبة أو الجينات الوراثية الناقلة لكثير من الأمراض .

 

كروموسومات طفل طبيعي

 

و يتم إستخدام هذه الطريقة في بعض الحالات الكثيرة والتي نراها في عياداتنا وأهمها :

 

- إضطراب عدد الكروموسومات سواء بالنقص أو الزيادة و ارتباطه بتقدم عمر المرأة بعد سن 35 سنة و إرتباطه وراثيا كذلك بعمر الأب في 10-20 % من الحالات .

- إختبار ثلاثية الكروموسوم رقم 21 لاستبعاد متلازمة الطفل المغولي . 

- إختبار ثلاثية الكروموسوم رقم 22 ورقم 16 لاستبعاد الأسباب الوراثية لتكرار الإجهاض .

- عيوب الكروموسومات الجنسية المؤنثة لاستبعاد متلازمة تيرنر و كلاينفلتر .

- إضطرابات الجينات الفردية مثل أمراض الدم الوراثية (الأنيميا المنجلية وأنيميا البحر المتوسط و الثلاسيميا) .

- إختيار جنس الجنين لتجنب الأمراض المتعلقة بالذكور مثل الهيموفيليا (سيولة الدم) أو المتعلقة بالإناث كالتخلف العقلي .

 

ومن الجدير بالذكر إن حدوث الأمراض الوراثية يختلف من واحد إلى أخر ، ففي بعضها يكون السبب متعلقا بخلل وراثي في جين واحد مثل أنيميا الخلايا المنجلية ، وبعض الأمراض الأخرى مثل الهيموفيليا (سيولة الدم) وضمور العضلات الوراثي قد يصيب جنس معين (الذكور فقط) ، ولذلك يمكن تطبيق تقنية حديثة تمكن من إختيار جنس الجنين الغير مصاب ، وهناك مجموعة أخرى مثل الطفل المنغولي وحالات الإجهاض المتكرر والتي يتسبب فيها خلل بالكروموسومات من حيث العدد أو الشكل فيمكن أيضا فحص هذه الكروموسومات .

 

ولكن كيف يتم تطبيق هذه التقنية إكلينيكيا و معمليا ؟!  أولا .. ينصح بهذه التقنية للأزواج الذين تعرضوا للإجهاض المتكرر أو الذين لديهم أطفال مصابين بأمراض وراثية يمكن تشخيصها و منع إصابة أي أطفال آخرين بها ، و يقوم الطبيب بشرح هذه العملية شرحا وافيا من حيث الطريقة المستخدمة واحتمالات النجاح ، ثم يقوم الطبيب المعالج بفحص الزوجين فحصا طبيا شاملا وعمل فحص الهرمونات المسئولة عن التبويض والأجسام المناعية المضادة ، وكذلك يؤخذ في الاعتبار سن الأم وكذلك الإصابة الوراثية المطلوب فحصها ، ثم يبدأ الطبيب في إجراءات عملية الحقن المجهري بدءا بتحفيز المبايض وتنشيطها ومتابعة نمو البويضات ، حتى يتم سحب البويضات من المبيض في اليوم المحدد .. وهنا يبدأ دور المختبر حيث يقوم الأطباء المتخصصون بحقن الحيوانات المنوية إلى داخل سيتوبلازم البويضة ثم متابعة انقسامها حتى الوصول إلى اليوم الثالث ، وفي هذا اليوم يتم أخذ العينات من الأجنة و ذلك بإختيار خلية واحدة تمثل التركيب الكروموسومي للجنين ، ويتم فحصها في مختبر الوراثة لتشخيص الأمراض المختلفة . 

 

و قد أثبتت هذه التقنية نجاحا كبيراً في تشخيص العديد من الأمراض الوراثية – وأهمها : أنيميا الخلايا المنجلية ، الثلاسيميا ، ضمور العضلات الوراثي ، متلازمة داون (الطفل المنغولي) وغيرها من الأمراض الوراثية الأخرى .

 

و قد امكن إستخدام هذه الطريقة أيضا لعلاج حالات الإجهاض المتكرر(خاصة في الأسابيع الأولى من الحمل) ، وكذلك حالات فشل أطفال الأنابيب المتكرر ، حيث يتم إختيار أفضل الأجنة من الناحية الوراثية وذلك لزيادة فرص حدوث الحمل .

 

لذا فإن هذه التقنية الحديثة أضحت أملا للكثير من العائلات والتي يوجد فيها أطفال مصابون بأمراض وراثية ، وسوف يحمل الغد القريب إن شاء الله آفاقا أخرى في هذا المجال