أغسطس ٢٠٢٣ , ٠٩

هذا ليس صوتي بل صــوت العلم 

 فاسمعـــوه بإنصات

د. سمير عباس

 

بداية كلي إيمان و يقين أن كلماتي كطبيب يحمل لهذا الوطن التقدير و الإعزاز ، و يعترف في كل محفل ومقام بفضله وعظيم جميلة - لن تصطدم بأرض جامدة يابسة ، ترفض احترام صوت العلم و تأبى سماع  نبراته . 

 

كلي يقين أننا مهما اختلفت  توجهاتنا و تباينت أماكن عطائنا - ترانا نجتمع على كلمة سواء - حروفها الخير كل الخير لأبناء مملكتنا الحبيبة ، التي أعطت - فلم تبخل ولم تضن . 

 

لذا وقتما أردت أن أكتب .. لم أتردد لحظة و لم أفكر في ترك قلمي - مخافة ألا تساعدني الحروف و الكلمات في إيصال ما أريد ، بل تملكتني  الجرأة لا لشيء إلا لكوني متسلحا بصوت العلم - الأقوى تأثيرا و إقناعا ، وهو صوت تترجم حروفه دائما البحوث المعملية و النتائج الحية الملموسة . 

 

لذا أراني اليوم على ثقة أن كلماتي ستركن لموقعها الأمين في قلب كل محب لخير هذا الوطن ، و ستعرف طريقها جيدا إلى العقول الواعيات . 

 

منذ عقدين أو أكثر من عمر الزمن و فتوحات العلم تشق طريقها بخطى أكثر رسوخا و ثباتاً ، ولقد بدا ذلك واضحاً جلياً مع ولادة أول طفل أنبوب ، هذا الحدث الذي أثار قضايا خلافية كبيرة ، واختلفت نظرات العلماء إليه ، بل و تباينت آراؤهم بين مؤيد و معارض ، البعض نظر إليه بعين الإستحسان و اعتبره نقلة طبية يستحق أصحابها الثناء و التقدير ، بينما رأى آخرون أن في الأمر تعارضا مع أخلاقياتنا كمجتمع مسلم ، يرتكز في كل خطوة من خطواته على أصول عقائدية و جذور قيمية . 

 

و لقد استطاع العالم أن يجتاز مرحلة  الخلاف ، و سريعا ما هدأت صفحة  الماء وقتما تصدى أصحاب الفضيلة بالمجمع الفقهي الإسلامي - لهذا الأمر ، و تعاملوا معه بفكر بالغ الرقي و أجازوا وقتها وسائل علاج العقم بوسائل التخصيب الصناعي وأطفال الأنابيب ، مع وضع الضوابط التي احترمناها كأطباء مسلمين ، وذلك بعدم استخدام بويضات أو حيامن أو أجنة من متبرعين . 

 

و كم كانت هذه الإجازة من أصحاب الفضيلة - بمثابة النصر لي على المستوى الشخصي خاصة أنها جاءت بعد دراسة قدمتها لهم ، فندت فيها كل الإيجابيات و تمت مناقشتها في حضوري و حضور كوكبة من علماء الدين وعلماء الطب و بعض العلوم الدنيوية الأخرى ، كما تشرفت بدعوة أصحاب الفضيلة لي بحضور عدد من الجلسات المختلفة بمقر المجمع بمكة المكرمة لسنوات عديدة لبحث قضايا علمية كثيرة .       

 

أتاحت عمليات أطفال الأنابيب  للباحثين  لأول مرة في التاريخ  التأمل في مراحل الخلق الأولى تحت المجهر ، حيث رأينا قدرة الخالق المبدعة في تطوير خلق الإنسان الكامل - من حيوان منوي و بويضة لا حول لهما ولا قوة . و قد تطورت وسائل علاج العقم بشكل سريع بحيث يندر وجود مرض الآن  يسبب العقم  لا يمكن علاجه ، و بدأنا نرى تقنيات في السنوات الماضية - شاركت في إخراجها  للعالم مبهرة بأفكارها و نتائجها ، بحيث أصبح بالإمكان الآن  حقن البويضة التي لا ترى بالعين المجردة بحيوان منوي أصغر منها سبعة آلاف مرة باستعمال إبرة متناهية في الدقة (أقل من عشر قطر شعرة الرأس)  ، بل و أصبحنا نستطيع بتوفيق من الله  - مساعدة الرجال الذين ليس لهم حيامن على الإطلاق  في المني أو بالخصيتين - في الإنجاب وذلك عن طريق أخذ خلايا أم النطاف من الخصية ، وقد شهدت المملكة ولادة أول طفل أنابيب تحت اشرافي في كل العالم العربي 1406هـ - 1985م ، لتسجل ريادة علمية في هذا المجال الحيوي .  

 

قبل ثمانية أعوام تبين لي مدى التطور العلمي الهائل  القادم في علم الجينات ، و بمتابعة ما يدور في مختلف مراكز الأبحاث و العقم  بالعالم - تأكدت أن هذا هو المستقبل في علاج أمراض فتاكة - لم يستطع الطب إلى يومنا هذا القضاء عليها ، و لكوني إنسانا أولا تتحرك داخله رغبات هي أشبه بالأحلام تجاه أبناء وطنه ممن أصابهم داء عضال - أفسد عليهم لذة الحياة ، و لكوني أيضا طبيبا شاهدا على تطور العلم من خلال كثرة اطلاعه - كنت حريصاً على إيصال صوتي لمن يهمه الأمر ، لذا كتبت قبل أقل من عقد من الزمن خطاب إلى وزير صحة  سابق - أدعوه لإنشاء أول مركز لأبحاث الجينات في كل العالم العربي ، خاصة لما للمملكة العربية السعودية من دور قيادي  هام في العالم العربي والإسلامي .

 

كما أن المملكة  بإمكانياتها الإقتصادية  الكبيرة و الطبية  المتطورة  مقارنة ببقية دول العالم العربي والإسلامي - تعتبر الوحيدة القادرة على استقطاب أنبغ علماء العرب والمسلمين في هذا التخصص و العاملين في أفضل المراكز المتطورة في أوروبا وأمريكا ، على أن  تبدأ بهم هذا المشروع الجبار و الذي  ينقل المملكة إلى المستقبل .  حيث يتم  تخريج  كوادر من الاطباء السعوديين و الفنيين  مستقبلا  تتولى القيادة ، ورغم كل ذلك كان الرد سلبيا لم يرقى لمستوى طموحاتي و أحلامي كطبيب وطنه هو همه الأكبر و شغله الشاغل .   

 

لقد أصبحت كل خصائص  الإنسان التي يحملها في جدائل الحمض النووي أشبه بالكتاب المفتوح يسهل قراءة ما به بوضوح ، و أصبحنا نستطيع تشخيص أمراض لا حصر لها ، كما أصبح علاج كثير منها حقيقة - لا خيال . 

 

و أخيرا فتح العلم لنا صفحات أخرى من كتابه و أزال الستار عن أعظم فتوحاته وأبحاثه ، حتى يومنا هذا وهي الأبحاث الخاصة بالخلايا الجذعية ، و لعلي هنا أتوقف لأستشرف بعين الطبيب ما يحمله لنا المستقبل ، وأظننا لو تركنا هذا الفتح الطبي يمر علينا كما تعودنا للأسف كثيرا -فإننا سنصبح رقما طبيا لا يرى على خارطة - اتسعت بل و كثرت على خطوطها الأرقام المميزة  ، و لتبسيط الأمر على القارئ .. فإن الخلايا الجذعية هي ببساطة خلايا أولية تنشأ في البويضة المخصبة ابتداء من اليوم الخامس إلي اليوم السابع من التلقيح  حجمها أصغر من النقطة الموجودة بنهاية هذه الجملة .  و رغم أن هذه الخلايا  كلها متماثلة - إلا أنها تبدأ بمرور الوقت  في التميز والتخصص ؛ لتكوين جميع خلايا وأنسجة  الجنين ، والتي تزيد عن 200 نوع . و لوافترضنا مثلا أن هذه الخلايا تحولت إلى كبد فإنها ستبقى طول عمرها تنتج خلايا كبدية فقط  ، و كذلك إذا أصبحت خلايا أمعاء أو جهاز عصبي - فإنها تصبح متخصصة في إنتاج خلايا  لنفس نوع النسيج ، وهنا تظهر القدرة الهائلة للخلايا الجذعية الغير متخصصة ، و التي  تستطيع التحول إلى أي نوع من أنسجة الجسم ، وما يمثله ذلك من فوائد جمة إذا تمت السيطرة عليها وتنميتها في المختبر ، حيث سوف يتمكن  العلماء - بقدرة الله - من انتاج جميع خلايا وأعضاء جسم الإنسان ، بحيث يتم إنتاج خلايا للأعضاء التالفة ؛ لعلاج أمراض كثيرة وخطيرة فشل العلم حتى يومنا هذا في إيجاد حل لها ، و منها إنتاج خلايا كبدية لمعالجة مرضى الفشل الكبدي  نتيجة للإتهاب الكبد الوبائي ، أو مرض السرطان وكذلك إنتاج خلايا الكلى لعلاج الفشل الكلوي ، وخلايا القلب لعلاج  فشل القلب ، والذي ليس له علاج ناجح إلا عملية نقل قلب .

 

تمكن العلماء في كل من بريطانيا والولايات المتحدة و كندا و أستراليا من توجيه الخلايا الجذعية لتكوين خلايا قلب و خلايا نخاع العظام و الكبد والكلى والعظام والغضاريف ، مما 

يمثل علاجا ناجحا لأول مرة في التاريخ لأمراض فشل  الكبد و الكلى و مختلف أنواع السرطانات و أمراض الدم و تآكل الغضاريف والروماتيزم . 

 

كما تمكن العلماء في دول أقل تقدما مثل أسبانيا و سنغافورة و حتى اسرائيل من إحداث اختراق و تقدم في جبهات أخرى مختلفة - مثل إنتاج خلايا البنكرياس و التي تبشر بعلاج مئات الملايين من مرض البول السكري .

 

كذلك  تمكن العلماء من تحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا عصبية مما أتاح لأول مرة في تاريخ البشرية الأمل  في علاج مرض الشلل الرعاش ( بركنسون)  ، و مرض الزهايمر (العته) ، و معالجة أنواع الشلل المختلفة  نتيجة  حوادث السيارات ، وأمراض أخرى كثيرة  عن طريق حقن بعض الخلايا العصبية في مكان الإصابة ، كما تمكنوا من إنتاج  خلايا الدم ، كما سيصبح في المستقبل القريب إنتاج خلايا البنكرياس سهلاً ؛ لعلاج مرض البول السكري وربما علاج لكل مرض دون تحديد . 

 

وتوجد الخلايا الجذعية في أكثر من مصدر :

 

- خلايا جذعية جنينية : في البويضات المخصبة الفائضة  الموجودة في مراكز علاج العقم و هذه غير مجازة دينياً .  كما  تستخرج من أجنة الإجهاض  أو السقط التلقائي أو بتقنية استنساخ الخلايا . 

 

- خلايا جذعية بالغة : يحصل عليها من الإنسان البالغ إما من خلايا الدم أو نخاع العظم أو من الثدي .

 

. - خلايا جذعية من الحبل السري أو المشيمة 

 

مما سبق نجد إن الخلايا الجذعية خلايا مبدئية رئيسية يمكن نظرياً تحفيزها لتشكيل أي نوع من خلايا الجسم ، وذلك باضافة بعض المواد الأخرى كالأملاح والمعادن ، حيث تصبح في المستقبل مصدر لا ينضب لإنتاج خلايا سليمة للمخ و الكبد وأعضاء أخرى - تحل محل خلايا الجسم التالفة . 

 

وقد عقدت الجمعية السعودية  للخصوبة - قبل ثلاث سنوات - مؤتمرها السنوي ، و فيه استضافت أحد العلماء النابغين المسلمين  في هذا المجال ، ولعل أكثر ما أبهر الحاضرين صور إلتقطها  لخلايا جذعية جنينية بشرية - تم إكثارها في وسط مختبري ، وقد راقب العلماء تحول هذه الخلايا إلى خلايا  قلبية تنبض على الشاشة . 

 

كما يعتبر العلماء  الخلايا الجذعية هي الأساس الرئيسي للطب التجديدي ، أي الذي يجدد أعضاء الجسم الحي ، وهو الميدان الذي تقوم فيه الخلايا البشرية بإصلاح أو استبدال الأنسجة أو الأعضاء المتضررة و التالفة . وإكمالاً لمنظومة عرضي لهذا الفتح الطبي - أود أيضا أن أوضح استعمالات الخلايا الجذعية .

 

إن الحصول على الخلايا الجذعية الأساسية من البويضات المخصبة ليس بالأمر الصعب ، حيث يتطلب الأمر استخدام تقنيات خاصة متوفرة حاليا في مختبرات أطفال الأنابيب ، حيث يتم تنمية الأجنة خمسة أيام من تاريخ تخصيب البويضة  ؛ بغرض نقل أجنة كبيرة إلى الرحم لزيادة فرص الحمل ، ثم  نقوم  بأخذ  خلية من هذه البويضة المخصبة (بلاستولا)  - بغرض فحص الجينات بها  ، لتحديد إذا ما كان الجنين مصابا بأي من الأمراض الوراثية التي قد تنتقل من الأبوين ؛ حتى نتمكن من نقل أجنة سليمة إلى رحم الأم و استبعاد المشوهة ، مما يعطي الأم فرصة كبيرة في الحمل بطفل سليم . إن تقنية الخلايا الجذعية مشابهة تماما لما ذكرته في الطور السابق .

 

كما إن الحصول على هذه الخلايا من البويضات المخصبة بغرض استعمالها في أبحاث علاج الأمراض الخطيرة ليس بالأمر الصعب ، و ذلك لأن كل عام - يتم التخلص في جميع أنحاء العالم من ملايين البويضات المخصبة الغير مستعملة ، ولو نظرنا إلى أن الإسلام أجاز استخدام كلى أو كبد أو قلب  من إنسان حي أو ميت إلى آخر - بغرض علاجه من أمراض فتاكة ، ليس لها علاج حتى يومنا هذا - فأنا لا أجد ضررا من نقل خلايا من بويضة مخصبة إلى أي شخص آخر ، و خاصة أننا لا نتحكم في حياة  الإنسان ، و لكن نحاول فقط شفاؤه بإذن الله من  الأمراض و رفع المعاناة عنه فبدلا من أن يقضي سنوات من عمره أسير المرض لا يملك خلاصا - نحوله بعون الله ثم بكلمة العلم - من مريض مسجى على ظهره أقعده المرض وأوهن قواه إلى عضو فاعل - يبني و يعمر ما دامت حياته واستمرت .  

 

و لعلها من الحقائق التي لا يعتريها شك أن سلم العلم له درجاته - نتسابق في الصعود عليها تسابق الشرفاء ، وأننا كلما اعتلينا درجة - انتابتنا رغبة في الصعود أكثر و أكثر . رغباتنا محمودة و مشروعة ، ولكن بيننا وبين العالم من حولنا رقماً لا يمكن لنا بلوغه - مادمنا نصعد وأقدامنا في أماكنها ثابتة لا تتحرك .

 

كلي خوف أن يسبقنا  العالم أكثر ، ونظل دوماً أصحاب حاجة علمية ، نمد لهم أيدينا - تفتح لنا الأبواب مرة و توصد أمامنا مرات و مرات .   

 

 إن دولة مثل الولايات الأمريكية و التي تعتبر أكثر دول العالم  تقدماً لم تتطور وتصل إلى ما هي عليه بسبب حجمها أو تعدادها أو نوع ديانتها ، و لكن بسبب مساندة العلم و العلماء ، و كان أخيراً قرار الرئيس الأمريكي - بتمويل الأبحاث الخاصة بالخلايا الجذعية الجنينية بأموال فدرالية - خطوة كبيرة في دعم هذا المجال ، وقد أثار هذا القرار حماس السوق - حيث ازداد الإقبال على شراء أسهم الشركات الكبرى المتخصصة في هذا المجال ، وتقدر سوقها المحتملة في حدود خمسين مليار دولار خلال الخمسة سنوات القادمة . 

 

و قد شبه أحد الكتاب أبعاد اكتشاف الخلايا  الجذعية بأنها جني خرج من القمقم - إذا أحكمنا السيطرة على هذا الخادم  الغير المتوقع - فإنه سيساعدنا على الحياة  أطول و بصحة أوفر ، وإن فشلنا على ارغامه في الإمتثال الأخلاقي - سيتحول مولد الأنسجة من مرمم الأعضاء و الأنسجة البشرية إلى وحش يعيث الفوضى في الحياة البشرية .

 

ومنذ أربع سنوات تقريبا أتانا صوت الغرب محذراً من خطورة الاستنساخ ، و خرجوا علينا بتوصيات تمنع أبحاث الاستنساخ ، و كم انطلت علينا هذه الخدعة وانقادنا وراءها ، لنتفاجئ بأن أبحاث الاستنساخ لم تتوقف في أي مكان من العالم ، رغم  تصريحاتهم التي تؤكد اقتصارها على الحيوانات فقط . 

 

هذه الخدع العلمية كثيراً ما يمطرنا بها الغرب المتقدم ؛ ليوقف زحف بحوثنا ، و كثيرا ما ننخدع ، و الهدف أظنه واضحاً جلياً هو أن نظل نحن في أماكننا وهم على القمة ، ينعمون بحق الريادة الطبية و ينفردون بالتقنية و ايجابياتها . 

 

و من المضحك إلى حد البكاء - أننا كثيراً ما نقرأ على صفحات الصحف وعلى شاشات قنواتهم التلفزيونية أن أمريكا سيفوتها قطار أهم البحوث العلمية ، وستجازف بهجرة أطبائها البارزين - إذ هي أصدرت قانوناً يحظر استنساخ الأجنة لأغراض البحث العلمي . 

 

إن أبحاث الاستنساخ والخلايا الجذعية هي سباق محموم لعلاج الأمراض المستعصية ، و يجب أن يعلم القارئ - أن الاستنساخ العلاجي لا يقصد به استنساخ البشر ، وإنما هواستنساخ خلايا و أنسجة أي استنساخ كبد أو قلب كامل إلخ ... و قد سمحت اليابان بفتح الباب أمام العلاج باستخدام  خلايا الأجنة الفائضة بدلا من التخلص منها في المختبر أو مجمدة ومتروكة. و لكننا حالياً ضد فكرة إنتاج  أجنة بغرض البحث العلمي ، و من الغريب أن دولة مثل  إسرائيل - تطورت في هذا المجال بدرجة كبيرة قد  تتيح لها قيادة العالم مع آخرين  ، حيث يبيعون ما يرغبون و يحجزون ما يرغبون ، و يكفينا أن نذكر تاريخ اليهود في علاقتهم مع العالم عامة ، و مع العرب والمسلمين بشكل خاص إلخ . 

 

ولعل من أهم ما أود ذكره في مقالتي - أن بعض الناس ينتابهم الخوف أن تؤدي بنا هذه الاكتشافات و الاختراعات الحديثة - إلى أن يستشعر الإنسان في نفسه قدرة مزعومة على مضاهاة خلق الله أو محاولة الاقتراب من علمه و سره ، و هذا قول مردود وعار تماماً من الصحة . 

 

و أكبر دليل على ذلك أنه وقتما أجاز علماؤنا المسلمين الأفذاذ في المجمع الفقهي الإسلامي اجراء وسائل التلقيح الصناعي لعلاج العقم - ظن البعض من قصار النظر أن في هذا تحدياً لقدرة الخالق .. و حاشا لله أن يأخذنا حصاد علمنا لأمر كهذا . 

 

لقد وهب الله العلماء العلم و يسره لخدمة البشر ، و لن يستطيع الطبيب أو العالم - مهما أوتي من علم - أن يخلق الأشياء من عدم و إنما لله فقط هذه  القدرة ، و أكبر شاهد و دليل أننا حين نجري عمليات أطفال الأنابيب - نجد في نفس اليوم - أن بعض المريضات تحمل و البعض الآخر لا تحمل  حيث  تبدو قدرة الله – قال تعالى " وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ" (سورة الشورى – الآية 50).

 

وكما إن علم الإنسان يبقى محدوداً و قاصراً لا يمتلك منه إلا بما شاء الله له أن يمتلك و ذلك مصداقا لقوله : " وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ " (سورة البقرة – الآية 255) ، والإنسان بكل ما أوتي من علم لا يمثل شيئا ذا قيمة في علم الله .. قال تعالى " قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ " (سورة الأنعام – الآية 104) 

 

إن الإسلام يحث على التداوي و بحث الوسائل الحديثة لعلاج الأمراض وعن ابن عباس رضي الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عباد الله تداووا " ، وكذلك قول رسول الله - وحدثنا به أبو هريرة " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له الشفاء " - علمه من علمه وجهله من جهله .  

 

 لقد أجاز علماؤنا بالمجامع الفقهية استخدام خلايا الإنسان البالغ الجذعية ، كما أجازوا  استخدام الخلايا من الحبل السري أو المشيمة . كذلك أجاز المجمع الفقهي الإسلامي - التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي - في دورته السادسة التي عقدت في جدة في مارس 1990 ﻡ .. بإستخدام خلايا و أنسجة و أعضاء الأجنة للتداوي و زرع الأعضاء ، وقد أباح استخدام الخلايا والأنسجة من أجنة الحيوانات - إذا أمكن ذلك علمياً و أمن الضرر ، وأمكن التغلب على  مشكلة الرفض . 

 

 

 و أخيراً .. أؤكد أنه ليس هناك من دافع حفزني لكتابة هذا المقال - سوى رغبة سيطرت على نفسي و أمل رواد فكري أن أرى يوماً هذا البلد وقد اعتلى القمة و قاد المسيرة العلمية في الغد القريب . 

 

و أظنه ليس بالأمل البعيد على بلد قاد - و مازال يقود بسماحته - مشاعر المسلمين و أحاسيسهم .. و ما أصعبها حقاً قيادة الأحاسيس . 

 

إنني مؤمن بأن العلم - لا شك - هو راسم خطوط المستقبل القريب ، متى تسلحنا به استطعنا اعادة تشكيل الخارطة الطبية بأيدينا و تحديد أصحاب القمة و أصحاب السفح ، وإنني مؤمن أن العلم هو زاد أبنائنا الذي يضمن لهم حياة كريمة - تجعلنا لا نخشى عليهم في زمن تلاطمت أمواج أحداثه و تباينت توجهاته .

 

إن إنشاء مركز لأبحاث الجينات و الخلايا الجذعية هو أرض خصبة لتخريج كوادر من العلماء السعوديين تعول عليهم البلاد كثيراً في مستقبلها المشرق السعيد ..

 

إنشاء هذا المركز  في رأيي هو ضربة قاصمة لشبح الجهل المخيف الذي يلقي علينا الغرب بظلاله، و تجاوزناه نحن مدركين خطورته ، و أخشى أن يصطدم به أبناؤنا فيجد فيهم الفريسة السهلة و يضمهم تحت عباءته .

 

كلي أمل أن تكون كلماتي قد مست وترا في نفس قارئي أدعو أن يكون هذا الوتر هو وتر الحب و الحرص أيضا على مستقبل هذا الوطن .